التنوع الثفافي والوحدة الوطنية : الهوية القوميه في  السودان بين العروبة والافريقية :

                        هل هناك أسس للتكامل ؟

 

                بقلم محمد علي جادين

الامين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي السوداني ( الخرطوم )

 

 هناك الآن اتفاق عام وسط النخبة السياسية السودانية حول التعدد والتنوع الاثني والثقافي والديني في السودان . ويتجسد ذلك بشكل خاص في مقررات مؤتمر أسمرا(1995) التي تمثل موقف التجمع الوطني الديمقراطي بأطرافه الشمالية والجنوبيةالمختلفة واتفاقية الخرطوم للسلام (1997) التي تمثل موقف حكومة الانقاذ وحزب الجبهةالإسلامية القومية وبعض القوى الجنوبية المتحالفة معها . ويتضمن ذلك بالضرورة إعادةالنظر في المكونات الأساسية المعتمدة في تحديد الهوية القوميه للسودان وعمليةالإندماج الوطني الجارية داخل الكيان السوداني الموحد بارتباطاته العربيةوالأفريقية في ارتباطها بتسوية وطنية تاريخية ترتكز على الديمقراطية والمساواة فيحقوق المواطنة وواجباتها ..الخ . ويجد هذا التوجه مساندة ودعماً اقليمياً ودولياًممثلاً في مبادرة الايقاد وشركاء الايقاد والمبادرة المصرية الليبية المشتركة.ولكن رغم كل ذلك فان الموقف من هذه المسألة لا يزال يتسم بعدم الوضوح والتردد فيتعيين حدود هذا التعدد والتنوع واستحقاقاته المباشرة ودوره العملي في الحياةالوطنية وبناء الدولة الوطنية الموحدة.

وهذا الجانب يشكل أهم عوامل استمرار الحربالأهلية وامتدادها للشمال وكذلك تدويل الأزمة السودانية بشكل عامكما هو حادث الآن ، ودفعها في اتجاه تفكيك وحدة البلاد وتمزيقها على أسس دينيةوعرقية. ومع غياب الديمقراطية واتساع الأزمة الوطنية الشامله الجارية في البلاد ،أدت تعقيدات الصراع السياسي إلى تحويل قضايا الهوية من مجالها الثقافي الى المجالالسياسي واستخدامها في الإثارة والتحريض والاستقطاب وتصوير السودان كمجموعات قبليةواثنية متصارعة، وبالتالي تهديد وحدة الكيان السوداني .. فهل يعكس ذلك صراعاً أثنياً وثقافياً لا فكاك منه الا بتفكيك وحدة البلاد على أسس عرقية ودينية ؟ هل هوتوجه لأثننة السياسة السودانية كما يقول د. حيدر إبراهيم ؟ أم هو مجرد انعكاس متضخمللأزمة الوطنية الشاملة الجارية في البلاد ؟ وبجانب كل ذلك .. أين موقع القضاياالسياسية والاقتصادية والاجتماعية وقضايا بناء الدولة الوطنية ؟ هل اصبحت تابعة لقضايا الهوية ؟ أم أن العكس هو الصحيح ؟ بالطبع لا يمكن التقليل من شأن مشكلة الهوية وموقعها في مجمل قضايا التطور الوطني .. ولكنها بالتأكيد ليست القضية الأساسية ولذلك فان مواجهتها لا يمكن ان تتم بمعزل عن قضايا التطور الوطني الآخري.  وبهذا الفهم تتناول هذه الدراسه تطور مفهوم الهوية القوميه لدى الحركة الوطنية في مراحلها الاولى واشكاليتها الراهنة ، بتركيز على الجنوب وإمكانية اندماجه ومشاركته في بناء سودان ديمقراطي موحد وفاعل في محيطه العربي والافريقي والدولي ، وضمن ذلك تتطرق الدراسة لبعض أفكار الاكاديمي والمثقف السوداني الجنوبي القيادي د. فرانسيس دينق حول هذه المسألة والعوامل المؤثرة في المحافظة على وحدة السودان اوتفككه.

  حركة الاستقلال الوطني ومشكلة الهوية

 الإعتراف بواقع التعدد والتنوع الاثني والثقافي والديني يعني ان السودان ليس أمة أو قومية موحدة ، حسب التعريف العلمي لمفهوم الأمة والقومية ، أي ان هويته مركبة من عدة قوميات بعضها مكتمل النمو وبعضها الآخر لايزال في طوره القبلي لم يتبلور قوميا بعد. ومن هذا الفهم جاءت انتقادات البعض لمفهوم الهوية القوميه في السودان لدى الحركة الوطنية في مرحلة النضال من أجل الاستقلال واتهامها بالتركيز على العروبة والاسلام والهوية العربية الشمالية وتجاهل المكونات الأخرى ، خاصة المكون الافريقي ، وتجاهل حقائق التعدد والتنوع الاثني والثقافي والديني في البلاد. وفي العادة تربط هذه الانتقادات بخصائص استعلاء عرقي وثقافي كامنه في الثقافة العربية الإسلامية والهوية الشمالية بشكل عام ومنطقة الوسط بشكل خاص (راجع كتاب صراع الرؤى لفرانسيس دينج) فهل يمكن أن نلصق مثل هذه الاتهامات بخصائص ثابتة في أي ثقافة كانت ؟ أم هي نتاج ظروف اقتصادية اجتماعية محددة وسيطرة فئات اجتماعية بعينها على مجرى الحركة الوطنية في تلك الفترة ؟ وهل مفهوم الهوية والتعدد والتنوع هو مفهوم ثابت وسرمدي لا يتبدل ولا يتغير ؟ أم أنه خاضع للتطور مثله مثل كل المفاهيم الأخرى ؟

لقد ظهر مفهوم الوطنية والهوية الوطنية بمعناه الحديث مع بدايات الحركة الوطنية الحديثة (الاتحاد السوداني واللواء الابيض) في ظروف مواجهة الاستعمار البريطاني والنضال من اجل الاستقلال ، ووقتها كان السودان دولة تعاني من ضعف عمليات الاندماج الوطني وفي بدايات احتكاكها بالحضارة الغربية وعملية التحديث . ولذلك جاء التركيز على اللغة العربية والإسلام بحكم دورهما الاساسي في بناء الكيان السوداني وتعزيز وحدته الوطنية طوال الفترات السابقة للحكم الثنائي (راجع كتاب حوارات الهويه لعبد العزيز الصاوي ) وذلك في ظروف كان هذا الكيان يعاني فيها من سيطرة القبيلة والطائفية.  ويكفي هنا الإشارة إلى موقف القوى المهيمنة التقليدية من ثورة 1924م بكل ما كانت تحمله من مفاهيم جديدة حول الهوية الوطنية وغيرها وتطور هذا المفهوم بعد ذلك في نشاط الجمعيات الأدبية والفكرية بعد هزيمة الثوره وفي المدارس الفكرية التي تأسست في بداية الثلاثينيات (ابوروف ، ودمدني ، الموردة ..إلخ).. ومن ثم تبلورت السمات العامة لهذا المفهوم في حركة مؤتمر الخريجين ، خاصة مذكرته للحاكم العام (1942) حول تقرير المصير والحكم الذاتي التي ركزت على التعليم والتجارة وإلغاء السياسة الجنوبية وتوحيد شطري القطر ..إلخ ، وظهرت هذه السمات بعد ذلك في برامج وشعارات الأحزاب السياسية المختلفة، وكانت كلها تعادي القبلية والطائفية وتعتبرها مهددة للوحدة الوطنية والوعي الجديد وتدافع عن الوطنية السودانية بركائزها العربية الإسلامية.  واستند هذا التوجه في خطوطه العامة على العوامل الأساسية المؤثرة في بناء الكيان السوداني وتعزيز وحدته الوطنية ، خاصة في المناطق الشمالية ، كما حددها المجرى العام لعمليات الاندماج الوطني الجارية في تلك المناطق منذ صعود السلطنات العربية الإسلامية في القرن الخامس عشر مروراُ  بالحكم التركي المصري ودولة المهدية حتى مجئ الحكم الثنائي .  فالسودان بحدوده الراهنة، لم ينشأ مع الحكم الثنائي او حتى الحكم التركي المصري وانما تبلورت تركيبته التقريبية خلال فترة السلطنات الإسلامية في الوسط والشمال والغرب (سنار ، الفور ، تقلي ، المسبعات) وذلك نتيجة تطورات اقتصادية اجتماعية وسياسية عديدة (راجع كتابي تاريخ السودان الحديث للقدال وحوارات الهويه للصاوي).  وسيادة الثقافة العربية الاسلامية في الشمال لم تأت نتيجة دعم ومساندة الحكم الثنائي ، كما يقول فرانسيس دينق (كتاب ديناميات الهويه) وانما نتيجة تطورات داخلية عديدة ، ويستند هذا التوجه ايضاُ الى ظروفه كرد فعل لسياسات الإدارة البريطانية في إحياء القبلية والطائفية في الشمال ولسياساته الخاصة بفصل الجنوب وعزله عن الشمال (قانون المناطق المقفولة ، محاربة اللغة العربية والاسلام وحركة التجار الشماليين والإدارة والتعليم في الجنوب ..إلخ) وساعدت على نمو هذا المفهوم وتطوره عوامل تاريخية واقتصادية واجتماعية عديدة تشمل نشوء طبقة وسطى (التجار ، الجلابة، الافندية ) في المدن والقرى ومنتشرة في كل مناطق البلاد . وهناك ايضاً ارتباط هذه الطبقة بالنشاط الحديث في المدارس ومكاتب الدولة والسوق وثقافتها العربية الاسلامية وهويتها الشمالية ، ومن خلال كل ذلك لعبت دورها في نشر الوعي الجديد لمفهوم الوطنية السودانية . ولذلك سيطر هذا التوجه في نشاط الأدباء والشعراء والمغنيين وبرزت تأثيراته في كل المدارس الفكرية والثقافية السائدة في تلك الفترة ، وفي برامج الاحزاب السياسية رغم الخلافات الظاهرة في شعاراتها (السودان للسودانيين ، وحدة وادي النيل ، الكفاح المشترك) فكلها كانت تركز على وحدة الكيان السوداني وعلى دور اللغة العربية والاسلام في مكونات هويته الوطنية ووحدته وتماسكه ، وتتجاهل المكونات الاخرى نتيجة ظروف وعيها في تلك الفترة ، لكن ذلك لم يمنعها من مقاومة السياسة الجنوبية الخاصة بعزل الجنوب عن الشمال أو اهمال المناطق الاخرى في الغرب والشرق وغيره رغم ارتباط الاحزاب الاساسية بطائفتي الختمية والانصار وتأثير ذلك سلبياً في توجهاتها الفكرية والسياسية . وفي نهاية الاربعينيات نجحت مقاومتها

هذه في إلغاء السياسة الجنوبية ، عندما تراجعت عنها الإدارة البريطانية في مؤتمر جوبا 1947م واعادت ربط الجنوب بالشمال في إطار السودان الموحد.  وهذا المؤتمر جاء نتاجاً لمقاومة حركة الخريجين لتلك السياسة وأسباب أخرى خاصة بالسياسة البريطانية

بعد الحرب الثانية وبدخولها في ترتيبات الحكم الذاتي واستقلال السودان ، وفي هذا الاطار تمثل العامل الحاسم في الموقف البريطاني ، حيث اشار السكرتير الإداري الى صعوبات فصل الجنوب عن الشمال وربطه بشرق افريقيا. وأكد ان شعب الجنوب شعب افريقي زنجي ، لكن عوامل الجغرافيا والاقتصاد تفرض عليه الارتباط في مستقبله بالسودان الشمالي العربي والشرق أوسطي (كتاب ديناميات الهوية لدينج) وفي نفس العام ظهر تردد هذا الموقف في مذكرة رسمية كانت لاتزال تدور حول إمكانية فصل الجنوب عن الشمال في النهاية بتحويل المسألة برمتها الى لجنة دولية في وقت مناسب وهكذا فرضت السياسة الجديدة بمشاركة شمالية محدودة ورغم تحفظات الجنوبيين المشاركين في المؤتمر ووافقوا في النهاية استناداً الى ضمانات بريطانية بحماية خصوصية الجنوب ومصالحه في مواجهة الشمال .

 مؤتمر جوبا والهوية المزدوجة

 استقبلت الحركة الوطنية نتائج المؤتمر باعتبارها انتصاراً لتوجهاتها الاساسية وبالتحديد لمذكرة مؤتمر الخريجين للحاكم العام ومطالبتها بإلغاء السياسات الجارية وتوحيد شطري البلاد. وكانت ترى ان مجرد إلغاء تلك السياسات واستبدالها بسياسة معاكسه كفيل بحل مشكلة الجنوب واندماجه في الشمال ، وذلك من خلال فتح الطريق لتعريبه ونشر الاسلام واللغة العربية في ربوعه .. وهي نظرة تتماشى مع مفهومها لمشكلة الهوية القائم على التبسيط والتركيز على دور هذين العاملين في بناء الكيان السوداني وتعزيز وحدته الوطنية (راجع كتاب السودان: الدوله المضطربه لبروفسور ودوارد) . اما النخبة الجنوبية ، فقد ركزت على الدفاع عن خصوصية الجنوب ، استناداً الى السلطة البريطانية في البداية وعلى التعامل مع الحكومات المركزية في الفترات اللاحقة ، بهدف تعظيم مكاسبها الخاصة والمكاسب الاقليمية للجنوب بشكل عام مع تجاهل كامل لاهمية بناء حركة سياسية فاعلة ومتفاعلة مع رصيفتها الشمالية.

كان المؤتمر حدثاً هاماً يفتح الطريق لإعادة ربط الجنوب بالشمال ومشاركته في بناء سودان موحد على اسس ملائمة . وكان يمكن ان يساعد في تطوير مواقف الحركة الوطنية في الشمال حول قضايا الهوية والوحدة الوطنية في اتجاه توسيع مفهومها التبسيطي ليشمل الجنوب بتمايزاته التاريخية والثقافية والاثنية عن الشمال العربي المسلم في عمومه، ويستوعب تركيبة السودان المعقدة وهويته المزدوجة وخصوصية انتمائه ودوره العربي والافريقي وذلك بالبناء على ما حققته من انجازات في هذا المجال في الفترات السابقة ، خاصة في جوانب تركيز الانتماء الوطني وبناء تنظيمات سياسية و ثقافية ونقابية وطنية في مواجهة الانتماءات والتنظيمات التقليدية السائدة وقتها. وكانت تملك بدايات وعي مبكر بهذه الاشكالية ، كما هو واضح في مناقشات الجمعيات الادبية وحركة اللواء الابيض وحتى الاحزاب السياسية خلال تلك الفترة، ولكن ذلك لم يحدث نتيجة لسيطرة العمل السياسي وتراجع الدور الفكري والثقافي وسط هذه الاحزاب ، بالاضافة الى تخلف الجنوب وتأخر نشوء حركته السياسية وابتعاده عن الشمال حتى عشية الاستقلال وتسارع الخطوات في اتجاه الحكم الذاتي. وفي بداية الخمسينيات ظهرت بدايات الحركة السياسية الجنوبية وسط طبقة المتعلمين المحدودة ، وذلك كرد فعل لاحتكاكها بالحركة السياسية في الشمال واستجابة لظروف توجه البلاد نحو الاستقلال وبحكم تكوينها هذا وظروف تخلف الجنوب كانت تفتقد القاعدة الاجتماعية الواسعة والمؤثرة مقارنة بالشمال ( كتاب الدولة المضطربه لبروفسورودوارد) مما اضعف امكانية تطوير نتائج مؤتمر جوبا وتوجهات الحركة السياسية في الشمال حول قضايا الوحدة الوطنية وغيرها بيد ان الادارة البريطانية كانت وقتها قد نجحت في تكوين صفوة جنوبية متمايزة عن رصيفتها في الشمال في تعليمها وتدريبها وتطلعاتها هي التي قادت الحركة الجنوبية في الفترات اللاحقة . ووقتها ايضاً كان الشمال قد نجح في تكوين حركة وطنية قادت البلاد نحو الاستقلال في مطلع 1956م ولم يكن من الممكن الانتظار حتى اكتمال نمو وتطور الحركة الجنوبية . وفي الوقت نفسه كانت التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية بين الشمال والجنوب قد اصبحت حقيقة كبيرة وبارزة لا يمكن ردمها بسهولة (راجع كتاب السودان بين العروبة والافريقيه لعبد الغفار محمد احمد) وهذه التفاوتات وعوامل الاختلاف الاخرى هي التي ظلت تتحكم في تطور الحركة السياسية الجنوبية وعلاقات الشمال والجنوب في الفترات اللاحقة . وفي اطار هذه الظروف جاءت فترة الحكم الذاتي والسنوات الاولي للإستقلال ، لتضع علاقات الجنوب والشمال في مجرى الصراع والاقتتال لأول مرة في تاريخها بدلاً من الحوار والتفاعل السلمي الديمقراطي ولذلك لا يمكن اعفاء القوى السياسية الشمالية من مسؤوليتها المباشرة ووضع مسؤولية كل ذلك على السياسة البريطانية خلال فترة الحكم الثنائي 1898- 1956م كما هو سائد حتى الآن وسط بعض الدوائر الشمالية ففي تلك الفترة تواصلت السياسات السابقة الخاصة باستبعاد الجنوب من المركز وتهميش دوره في الحياة الوطنية .

 وإذا كان يمكن قبول ذلك ايام الحكم البريطاني ، فإن الظروف المستجدة لم تكن تسمح بذلك ، وبدأ هذا التوجه باستبعاد الجنوبيين من مفاوضات الحكم الذاتي (52/1953) وترتيبات اعلان الاستقلال (1955) وفي اجراءات سودنة الوظائف التي تمس تطلعات طبقة المتعلمين الناشئة بشكل مباشر) وفي 57 / 1958 تراجعت الاحزاب الشمالية الاساسية عن وعدها بأعطاء الاعتبار الكافي لمطالب الجنوب حول الحكم الفيدرالي في الدستور الدائم. وزادت مخاوف الجنوبيين وشكوكهم عندما تركزت المناقشات حول شعارات (الدستور الاسلامي)لان ذلك يعني عملياً المزيد من الاستبعاد والتهميش (راجع كتاب تقييم التجربة الديمقراطية الثالثه لجادين) وهكذا لم يكن مستغرباً ان ينفجر التمرد الاول 1955م بكل عنفه ودمويته ، كرد فعل لحالة الاحباط التي اصابت السياسيين الجنوبيين وشكوكهم حول نوايا ومواقف الشماليين من مطالبهم المشروعة ، بالإضافة الى السياسة البريطانية السابقة واسباب تاريخية عديدة . وجاء الحكم العسكري الاول 1958 -1964م ليضع نهاية لتوجهات مؤتمر جوبا حول خصوصية الجنوب ووعود البرلمان الاول حول الحكم الذاتي والفيدرالية ، وذلك من خلال اجراءاته في مجالات التعليم وطرد المبشرين المسيحيين وسياسة الاسلمة والتعريب في الجنوب (كتاب الدوله المضطربه لودوارد).  كل هذه التطورات ادت الى تصعيد حالة التوتر والتأزم في العلاقات الجنوبية -الشمالية في بداية الاستقلال ، ومنذ ذلك الوقت بدأت الحركة السياسية الجنوبية المقاومة المسلحة لتضع علاقات الطرفين في  مجرى الصراع والاقتتال لأول مرة في تاريخها .

 وفي فترة الستينيات والفترات اللاحقة تصاعدت عمليات المواجهة لتصل الى مرحلتها الراهنة ، وهي في التحليل الاخير ليست مجرد مسألة مواجهة بين الافريقية والمسيحية في الجنوب والعروبة والاسلام في الشمال ، وانما ترتبط ايضاً بتناقضات المركز والاطراف البعيدة والمهمشة ومحاولات هذا المركز المتواصلة لدمج هذه الاطراف في نظامه السياسي في مجتمع لاتزال تسيطر عليه التكوينات القبلية ويعاني من ضعف شديد في عمليات الاندماج الوطني.  وفي حالة الجنوب تتداخل عوامل الاختلافات التاريخية والثقافية وواقع التخلف المزري ورواسب التاريخ المضخمة مع العوامل السياسية المذكورة وعوامل أخرى عديدة ، لتبرز صراعه من اجل هويته وخصوصيته ورد مظالمه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وهنا لابد من السؤال : هل نرجع هذه التطورات الى خصائص استعلاء عرقي وثقافي كامنه في الثقافة العربية الاسلامية والهوية الشمالية ؟ أم الى سياسات عملية انتجتها فئات اجتماعية معينة كانت تتحكم في السلطة خلال تلك الفترة ؟ هل نرجعه الى القصور الواضح في مفهوم الحركة الوطنية لمشكلة الهوية ام الى توجهات سياسية واجتماعية محددة ظلت تنتهجها القوى المسيطرة على السلطة طوال سنوات ما بعد الاستقلال وخاصة في فترات الانظمة العسكرية؟ . بالطبع لا يمكن تجاهل الاخطاء القاتلة التي وقعت فيها الحكومات الوطنية الاولى ، وكلها ترتبط بشعار (تحرير لا تعمير) المسيطر في تلك الفترة والهادف الى تحقيق الاستقلال في ظروف توازانات داخلية وخارجية حرجة وصراعات ومناورات حزبية واسعة . وقصور هذه الحكومات لم ينحصر فقط في تعاملها مع مشكلة الجنوب ، وانما شمل معظم قضايا فترة ما بعد الاستقلال . المهم مع كل ذلك فإن الاهتمام بقضايا الهوية والوحدة الوطنية لم يتوقف على رغم اندلاع الحرب الاهلية الاولى في بداية الستينيات وتأزم علاقات الشمال والجنوب طوال الفترات اللاحقة .

 ودور مشكلة الجنوب في ثورة اكتوبر1964م وانتفاضة مارس / ابريل 1985م ضد الانقطاعين العسكريين الاول ( 58-64 ) والثاني ( 69-85) هو احد اشكال هذا الحوار والتفاعل مع المتغيرات الجارية ، وظهر ذلك بشكل واضح في برنامج الحكومة الانتقالية (1964) الخاص بتلبية المصالح الاقليمية للجنوب في اطار السودان الموحد . وفي مؤتمر المائدة المستديرة الذي نظمته هذه الحكومة طرحت الاحزاب الشمالية تصورات متقاربة حول حكم ذاتي اقليمي للجنوب مقابل تصورات الانفصال والفيدرالية الموسعة التي طرحتها القوى الجنوبية ، وهذا المؤتمر يمثل اول مؤشر شمالي / جنوبي حقيقي لمناقشة القضايا الوطنية الكبرى مقارنة بمؤتمر جوبا 1947م. وتضمنت مناقشاته تطوراً ملحوظاً في مواقف القوى الشمالية حول قضايا الوحدة الوطنية، باتجاه توسيع مفهوم الهوية  ليشمل الجنوب المختلف اثنياً وتاريخياً عن الشمال وبالتالي الاتجاه لإقرار هوية مزدوجة للسودان ككل ، وهو تطور فرضته ظروف الحرب الاهلية وسياسات الحكم العسكري في مواجهتها وما صاحب كل ذلك من مناقشات وحوارات واسعة شملت كل القوى السياسية والتيارات الفكرية وكان لتفاعل هذه القوى مع حركة التحرر الوطني الافريقية الناهضة في تلك الفترة مع العوامل الداخلية المذكورة ، د ور كبير في دفع هذا التطور في اتجاه تركيز الاهتمام بالقارة الافريقية والمكون الافريقي في الهوية الوطنية السودانية . وفي وقت لاحق استفادت حكومة انقلاب25 مايو 1969م من هذه المناقشات في اعلان 9 يونيو 1969م الخاص بمنح الجنوب حكماً ذاتياً اقليمياً وذلك في اول اعتراف حكومي بالاختلافات الثقافية والتاريخية بين الجنوب والشمال وبحق الجنوب في تطوير ثقافاته ولغاته في اطار سودان موحد (راجع : الماركسية ومسألة اللغه لعبد الله علي ابراهيم ) ولكن هذه التوجهات الجديدة لم تجد الاهتمام الكافي ، بحكم غياب الديمقراطية وملابسات الصراع السياسي في تلك الفترة ، وايضاً بسبب سيطرة الشعارات الاقتصادية والاجتماعية طوال فترة ما بعد الاستقلال وضعف اهتمام الحركة السياسية بمختلف تياراتها بمشكلة الهوية والمسألة القومية بشكل عام. ونتيجة لذلك انحصر الاهتمام في الجوانب السياسية  وظلت الحركة الجنوبية تراوح بين اتجاه الانفصال بقيادة اقري جادين واتجاه الفدرالية بقيادة وليم دينق وذلك انطلاقاً من حماية خصوصية الجنوب في مواجهة سيطرة الشمال واستعلائه العرقي والثقافي .. المهم ان هذا التطور وصل نهايته في اتفاقية اديس ابابا 1972م ومنح الجنوب الحكم الذاتي الاقليمي وتلك تجربة تتطلب دراسة خاصة بحكم تأثيرها الكبير في مشكلة الهوية والوحدة الوطنية في السودان ولأنها تؤكد امكانية الوصول الى تحقيق السلام في اطار تسوية وطنية تاريخية شاملة ، تشارك فيها كل القوى السياسة والاجتماعية في الشمال والجنوب على السواء . وتستند هذه الامكانية على ما توصل اليه التجمع الوطني الديموقراطي عام 95 ومابعدها والقوى السياسية الاخرى حول حقائق التنوع والتعدد الثقافي والاثني في اطار السودان الموحد ، وعلى الطريق المسدود الذي وصله نهج المواجهه والاقتتال حتى الآن وذلك بالإضافة الى وعي اقليمي ودولي متزايد بأهمية تحقيق مثل هذه التسوية . والمفاوضات الجارية الآن في مشاكوس يجب وضعها في هذا الاطار وتطويرها الى منبر وطني شامل وصولاً الى التسوية المنشودة . وبذلك وحده نضع ارجلنا في طريق بناء سودان ديمقراطي موحد وفاعل في محيطه العربي والافريقي والدولي .

 وضع الشمال

 إشكالية الهوية الوطنية في الوقت الراهن ليست قصورات الحركة الوطنية في مراحلها الاولى ، بل تتمثل في توجهين متطرفين متناقضين ومتشابهين في نفس الوقت . الاول يضع الدين في مواجهة الهوية الوطنية ، وتمثله الجبهة الاسلامية القومية وسلطة الانقاذ ودوائر معينه وسط القوى  الشمالية المهيمنه ، وهو يحاول فرض مفهوم للهويه يقوم على الاسلام واللغة العربية ومعاداة الثقافات والاديان الاخرى. ومثل هذا المفهوم يعمل على تبسيط مشكلة الهوية ، ويحصرها فقط في عامل الدين أو على الاصح فرض الاجتهادات الخاصة بحزب واحد على كل الاحزاب والقوى الاخرى مع تجاهل كامل لحقائق التنوع والتعدد الثقافي في البلاد وحتى في الشمال العربي المسلم نفسه وهو يحاول تحقيق ذلك بفرض سياسة اسلمة وتعريب واسعة وسط المجموعات غير المسلمة وغير العربية، بكل الطرق الممكنة ، وعلى رأسها سلطة الدولة السياسية والاقتصادية وغيرها. وهذا التوجه يعتبر امتداداً لممارسات الحكومات العسكرية بشكل خاص والانظمة الديمقراطية بدرجة اقل ، وهو بطبيعته هذه يتناقض مع الاسلام والتراث العربي الاسلامي ومع التجربة السودانية في عمومها وهو ايضاً توجه احادي وأدى عملياً الى ادخال العروبة السودانية والاسلام  في مأزق صراع اقصائي وورطة عدم القدرة على التعايش مع المجموعات الوطنية الاخرى وخاصة الجنوبية ، وهو بذلك يخاطر بالعروبة والاسلام وبمكانتهما الكبيرة في الهوية الشمالية ، ويحملهما مسئولية تفكيك الكيان السوداني الموحد وتخريب نسيجه الاجتماعي ( كتاب الماركسيه لعبد الله ع.ابراهيم) وذلك من خلال استغلالهما كسلاح اضافي لتعزيز نهجها الاستبدادي الشمولي ( راجع ازمة المصير السوداني لعبد العزيز الصاوي) والواقع ان جذور هذا التوجه تمتد الى مناقشات الدستور في 57 – 1958م والى السنوات الاخيرة في الحكم المايوي ودورها في تنمية حركة الاسلام السياسي وربطها بالفئات التجارية والطفيلية النامية ، ولكنه بالتأكيد لا يتماشى مع التطورات التي حدثت في مواقف القوى السياسية الشمالية تجاه مشكلة الهوية في العقود الاخيرة ، كما ورد في مكان سابق. اما التوجه الاخر ازاء موضع الهويه فهو توجه معاكس تماماً للتوجه السابق ويتركز بشكل رئيسي وسط القوى الجنوبية استمراراً لتقاليدها خلال فترة الحرب الاهلية الاولى وله امتدادات شمالية لاحقا ، ويركز على تحميل الثقافة العربية الاسلامية والهوية الشمالية في عمومها مسئولية الازمة الوطنية الشاملة الجارية في البلاد. ويستند هذا التوجه الي حقيقة  سيطرة القوى  الشمالية على السلطة طوال سنوات مابعد الاستقلال وسياساتها التي ادت الى استبعاد الجنوب وتهميشه معتبرا هذه السيطرة نتاجاً لجوهر ثابت في الهوية الشمالية وثقافتها العربية ، وليس فقط نتيجة للتكوين الفكري الاجتماعي لتلك القوى . وبذلك يتحول التركيز من العوامل الاقتصادية الاجتماعية الى العامل القومي والثقافي، ويتحول الصراع من صراع سياسي اجتماعي الى صراع هويات كما هو واضح في كتابات فرانسيس دينق الاخيرة خاصة كتاب (صراع الرؤى) وكل ذلك بهدف تفسير اسباب الازمة الوطنية الجارية وكيفية معالجتها ، ومن هنا يحاول هذا التوجه تضخيم حقائق التنوع الثقافي الإثني في اتجاه إعلاء شأن المجموعات غير العربية (الافريقية) باعتبارها أساس الهوية الوطنية ، وتقليل شأن القومية العربية الشمالية باعتبارها (اقلية مسيطرة) وفي بعض الاحيان مجرد (جالية اجنبية) يجب طردها من البلاد وذلك اعتماداً على الإحصاء السكاني الاول. وهذا التوجه كالتوجه المعاكس له ، يعمل على تبسيط مشكلة الهوية من خلال نظرة (عرقية) تقود الى نفي الهوية العربية الشمالية لمصلحة إعلاء شأن (الهوية الافريقية) وخلق تعارض موهوم بين الانتماء العربي الاسلامي في الهوية السودانية وانتمائها السوداني و الافريقي.  وهذا يعني رفض حقائق التنوع والتعدد الثقافي القائمة في ارض الواقع وعلى رأسها حقيقة دور الثقافة العربية الاسلامية والهوية الشمالية ، ويعني ايضاً نفي صفة (الافريقية) عن الشمال لمجرد انه (عربي ومسلم) وذلك دون تقدير لوجود أكثر من ثلاثة ارباع العرب في بلدان عربية / افريقية ، او لدور (العروبة السودانية) في بناء الكيان السوداني وتوطيد وحدته ، وعندما يصطدم هذا التوجه بحقائق الواقع ويفشل في نفي الهوية العربية الشمالية وتأكيد اقليتها، يتراجع الى الانكفاء الاقليمي والقبلي وتحويل السودان الى سودان اثنيات وقبليات ، فهل يؤدي ذلك فعلاً الى معالجة الازمة السودانية من جذورها بما معناه التضحية بالهوية القومية الشمالية كحضارة وثقافة وقوى سياسية وشعبية مؤثرة ؟ ام انه يتطلب المحافظة عليها وعلى رصيدها هذا ليتضافر مع جهود ومساهمات المجموعات الاخرى في بناء سودان ديمقراطي موحد ؟ (كتاب حوارات الهويه للصاوي). هكذا تتحدد مشكلة الهوية الوطنية في الوقت الحالي متخذة شكل  الاستقطاب والصراع العرقي والديني بين هذين التوجهين المتنافرين والمتشابهين في نفس الوقت ، بغض النظر عن الشعارات المرفوعة . وهنا لا بد من تأكيد الدور الرئيسي الذي لعبته سياسات سلطة الاسلاميين الحاكمة في دفع الاوضاع لتصل لهذه الحالة . وذلك لانها حولت قضية الحرب الاهلية من مشكلة سياسية لها اسباب محددة الى صراع ثقافي وديني ، ومن مشكلة وطنية الى مشكلة اقليمية ودولية تحت شعار (الدفاع عن العقيدة والوطن) وشعارات الجهاد وغيرها . ومع كل ذلك هناك ضرورة لطرح مشكلة الهوية والوحدة الوطنية للحوار والمناقشة الواسعة والمساهمة في استعادتها من ايدي قوى التطرف الديني والعرقي التي تعمل على تعميق الازمة الوطنية الجارية وتهديد وحدة الكيان السوداني . في كتابه (صراع الرؤي) يركز فرانسيس دينق على سؤال مثير للجدل : هل نحن افارقة ام عرب مؤكدا ان السودان افريقي بشكل اساسي وحتى الذين يدعون الانتماء العربي في الشمال هم افارقة اقحاح . ويركز هنا على الاصول العرقية التي لا يمكن متابعتها ويتجاهل دور العوامل الثقافية والاجتماعية في صياغة الهوية بشكل عام . هذا التوجه برز في الفترة الاخيرة في كتابات عديدة مصحوبة بعداء شامل للثقافة العربية الاسلامية عموماً والشمالية بشكل خاص مستندا على الاحصاء السوداني الاول (1955م) الذي جرى في نهاية الحكم الثنائي . ولكن التعامل مع هذا الاحصاء يجب ان يتم بوعي لعيوبه الفنية ومقاييسه المعتمدة في تصنيف المجموعات المختلفة اذ انه يعتمد تصنيفاً عرقياً غيرعلمي ويفترض فوارق وهمية بين المجموعات السكانية في الشمال والجنوب على السواء ويتجاهل عمليات التداخل والتمازج الجارية في وسطها واحصائياته لا تمثل سوي الاتجاهات الشعبية في نظرة السكان لبعضهم البعض وعلاقاتهم التاريخية والحدود التي يتحركون ويكسبون معاشهم في ربوعها ، لانه لاتوجد سوى مجموعات محدودة جداً يمكنها

الادعاء بعدم الاختلاط بالمجموعات السكانية الاخرى (كتاب السودان لعبد الغفار محمد احمد). .  كل ذلك لا يقلل من قيمة احصاء عام 55في توضيح الصورة التقريبية للتنوع الاثني والثقافي في البلاد ..لكنه يؤكد ضرورة العمل لإنجاز خريطة حقيقية توضح حجم هذا التنوع وتداخل وتنافر مكوناته في اطار الكيان السوداني الموحد . وبتعميم واسع يمكن تقسيم سكان السودان الى مجموعتين : الاولى تشمل القوقازيين (حاميين / ساميين) في شمال وشرق البلاد . والثانية تشمل السود (نيليين وسودانيين) في الجنوب والغرب . وكل مجموعة تضم مجموعات اثنية وثقافية متنوعة ومتعددة (راجع احمد الجاك) وضمن هذا الاطار لا يمكن النظر لواقع التنوع والتعدد الاثني الثقافي كمسألة غير محدودة وكوحدات معزولة عن بعضها البعض لايجمع بينهما اي رابط ، كما تحاول ان تقنعنا تلك الاحصائيات والمتحمسين لها .

والواقع ان السودان يمثل دولة مركبة من عدة هويات بعضها قطع شوطاً كبيراً في بلورة خصائصه القومية مثل القومية العربية الشمالية وبعضها الآخر لا يزال في طوره القبلي ، وماقبل -القومي ، مثل الجنوب وبعض المناطق الشمالية ، وينعكس كل ذلك في الهوية السودانية بتركيبها المزدوج ، العربي والافريقي ، وتنوعه الاثني والثقافي ، ولذلك من الضروري مناقشة هذه المسألة في اطار الشمال والجنوب كل على حده بحكم التفاوت فينمو وتطور الوضع القومي في المنطقتين.  الشمال في عمومه يرتبط بهوية عربية اسلامية تستند الى غلبة الثقافة العربية الاسلامية في داخله وانتماءه الى المجال الحضاري العربي الاسلامي العام ، اكثر من الاصول العرقية التي لا يمكن متابعتها . ويتضمن ذلك بالضرورة تنوعاً وتعدداً في داخله بمعنى الاختلاف في درجة التعريب والاندماج الوطني واستمرار الثقافات السابقة كجزء حي وفاعل في التكوين القومي والثقافة الوطنية القائمة الآن . وذلك بحكم تداخل وتمازج المجموعات الشمالية في عمومها مع بعضها البعض ونتيجة للدور الحاسم الذي ظلت ولا تزال تلعبه اللغة العربية والاسلام والتجربة المشتركة طوال حقب تاريخية طويلة . ويمكن رصد هذا التداخل والتمازج بدءاً بالحضارات القديمة مروراً بفترة الممالك المسيحية وانتشار الاسلام واللغة العربية وظهور السلطنات العربية الاسلامية ، وانتهاءاً بالعصر الحديث ودور الدولة المركزية والسوق الموحد في تسريع عمليات الاندماج القومية الشمالية بحيث اصبح التنوع والتعدد الاثني والثقافي في داخلها يمثل تدرجاً في مستوي الاندماج الوطني وليس اختلافا نوعيا. صحيح ان بعض المناطق انكفأت واحتفظت بتراثها الثقافي القبلي لأسباب محددة ولكن ذلك لم يؤد الى منع تداخلها وتمازجها مع المجموعات الشمالية والوطنية الاخرى او الى إبتعادها الكلي عن تأثيرات العوامل الداخلية الدافعة في إتجاه الاندماج الوطني والهوية الشمالية الموحدة . وهي عملية تاريخية طويلة ومعقدة ساعدت على تسريعها عوامل التجارة طويلة المدى والهجرات السكانية الواسعة والطرق الصوفية وتحركاتالتجار والعلماء في القرون الوسطى والدولة المركزية والسوق الموحد في العصر الحديث .. إلخ ومحاولة تضخيم هذا التنوع في المناطق الشمالية بشكل عام ، لا يمكن ان تنجح

في تحويله الى تباين واختلاف في الثقافات مقارنة بالاختلافات الثقافية والتاريخية مع الجنوب . ووحدة الهوية، في كل الاحوال، لاتعني التجانس المطلق وانتفاء التنوع . وفي حالة الشمال بشكل خاص لا يمكن الحديث عن اختلافات نوعية، بحكم تداخل الثقافة العربية الاسلامية في مجمل النسيج العام للثقافة الوطنية مما ادي الي تداخل وتمازج مجموعاتها بشكل كبير ومن هنا فان هذا التنوع يشكل مصدر قوة وثراء وليس مصدر تفتت وتفكيك.  واياً كانت نظرتنا لهذه الاختلافات فان ذلك يجب ان لا يقف في طريق حرمان هذه المجموعات من حقوقها الثقافية والتعبير بكامل حريتها عن خصوصيتها في اطار الكيان السوداني الموحد .  لقد حاولت الحركة الشعبية لتحرير السودان خلق تحالف واسع مع هذه الحركات الاقليمية / الجهويه الشماليه، ولكنها لم تنجح في ذلك حتى الآن وذلك نتيجة لإنشدادها لتركيبتها الاقليمية الجنوبية وتحولها في معظم الاحيان الى معبر حقيقي لتطلعات الجنوب (كتاب الدوله المضطربه لودوارد).  الواقع ان القضية ليست في تخيير السودان بين عروبته وافريقيته ، بقدر ماهي في التعامل مع حقائق الواقع كما هي ، وفي التركيز على المداخل التي توحد البلادوتمكنها من القيام بدورها . فالسودان حسب د. فرانسيس يمثل افريقيا مصغرة وجسراً للتواصل بين القارة الافريقية والشرق الاوسط  وهذا الوصف يعبر بشكل محدد عن خصوصية انتماء السودان عموماً ، والشمال بشكل خاص  ودوره في محيطة العربي والافريقي . وبذلك يمكن القول بأن العروبة والافريقية اصبحتا مندمجتين بشكل كبير في شمال السودان ولم يعد من الممكن التمييز بينهما . وهو بذلك يكون الاكثر تمثيلاً للقارة الافريقية بالمقارنة مع اي منطقة افريقية اخرى بما في ذلك جنوب السودان

(راجع بروفسور مدثر عبدالرحيم) ود. فرانسيس دينق نفسه يشير الى ان هذه الهوية المزدوجة تشكل عامل تدعيم وتعزيز للوحدة الوطنية ولدور السودان في المحيطين العربي والافريقي ( كتابا ديناميات وافارقة عالمين) ويشير ايضاً الى تداخل ثقافة الدينكا وديانتها مع ثقافات الشرق الاوسط والديانات السماوية الكبرى في المنطقة  وذلك يعني ان هناكالكثير من المشتركات التي يمكن تنميتها وتطويرها لمصلحة بناء سودان ديمقراطي موحدوفاعل في محيطه العربي والافريقي . وهنا نشير الى ان احتمال الاصل الشلكاوي للفونج يمثل مدخلا هاما في هذا الاتجاه.                       

 وضع الجنوب

في الجانب الآخر يختلف الوضع في الجنوب وتنطبق عليه التعريفات ذات الطابع السوسيولجي ، المرتبط باوصاف الاثنية والقبلية اكثر من اوصاف القومية وشبه القومية . وذلك يعني انه لا يزال في طور التكوين والتبلور ولم يستكمل مقومات تكوينه القومي بعد (كتاب ازمة المصير للصاوي ) ولكن ذلك لا يقلل من قيمته الانسانية وحقيقة خصوصيته واختلافاته التاريخية والثقافية عن الشمال . ورغم كل ذلك يمكن القول انه يتميز بهوية (اقليمية) موحدة (كتاب السودان لودوارد) هوية فوق -قبلية ، افرزتها عوامل عديدة شملت : السياسة البريطانية تجاه المنطقة حتى عام 1947م (السياسة الجنوبية) ودور المتعلمين في فترة ما بعد الاستقلال، تجربة الحرب الاهلية الاولى(54-73) والثانية (83- .000) ، تجربة الحكم الذاتي الاقليمي 72/ 1983م .. إلخ بالاضافة الى التطورات السياسة والاجتماعية اللاحقة واتساع الفئات الرأسمالية الجنوبية النامية والتأثيرات السلبية والايجابية للعلاقة مع الشمال وغيرها . ويدخل في ذلك تأثيرات حركة تحرير شعب السودان التي اصبحت في فترات وجيزة تكتسب طابع المعبر الحقيقي عن وحدة وتطلعات الجنوب كهوية اقليمية موحدة  رغم شعاراتها حول السودان الجديد وهي حقيقة يشير اليها ايضا فرانسيس دينق، رغم تركيز كتاباته حول الجنوب على الدينكا بشكل خاص والقبائل النيلية بشكل عام ، لكنه لا يتناولها بشكل مباشر مقارنة بالآخرين (المرحوم جوزيف قرنق والاكاديمي قبرائيل بادال..إلخ) وتماماً كما هو الحال في الشمال ، لا يمكن الحديث عن التنوع الإثنيوالثقافي في الجنوب بعموميه او وحدات قبلية معزولة بعضها عن بعضها وتجاهل عملية التفاعل والتمازج الجارية وسطها. وفي هذا الاطار تشير الوقائع الى وجود ثلاثة مجموعات جنوبية كبيرة  تمثل درجة من الانتماء فوق- القبلي . وهذا الوضع يساعد في فتح الطريق لتبلور كيان قومي او اكثر حول كبرى القبائل الجنوبية (الدينكا) او حول تحالف بين المجموعة النيلية الكبرى (الدينكا ، النوير ، الشلك) التي تشكل حوالي 60% من سكانه  وذلك رغم عوامل الانقسامات القبلية والسياسية والشخصية ، وتدعم مثل هذا التوجه تطورات مابعد الاستقلال التي خلقت الاساس الموضوعي لوحدة المنطقة. ويعتمد ذلك بشكل رئيسي على تطور مفاهيم طبقة المتعلمين حول هذه المسألة وعلى آفاق علاقة الجنوب بالشمال ومحيطه الافريقي المجاور وهي مفاهيم لا تزال تتراوح بين الانفصال والوحدة الفضفاضة مع الشمال وبين وحدة المنطقة وتجزئتها وبين البحث عن هوية اقليمية /جهويه خاصة ومعاداة الثقافة العربية والهوية الشمالية. وهنا يلاحظ ضعف المساهمة الجنوبية في هذا المجال فيما عدا ماتوصل المرحوم جوزيف قرنق ( قيادي شيوعي اعدمه النميري ) حول استحالة اندماج المجموعات (القومية ، القبلية الجنوبية) مع القومية العربية الشمالية لتكوين قومية سودانية موحدة ،  وذلك لان الاخيرة استكملت نموها وتبلورها القومي ولا يمكن اللحاق بها.  لذلك يرى ان الطريق الوحيد المفتوح امام هذه المجموعات هو تطور جماعاتها الكبيرة وتبلورها في عدد من (الوحدات القومية) في إطار سودان موحد ، اذا ما توفرت ظروف ديمقراطية ملائمة (كتاب ازمة المصير للصاوي) وفي عام 1970م اقترح تحديد لغة او لغتين من لغات الجنوب لتكون لغة قومية للاقليم بكامله (كتاب الماركسية لعبد الله ابراهيم) وهو ينطلق هنا من النظرة الماركسية للمسألة القومية في تلك الفترة وتجربة الاتحاد السوفيتي في هذا المجال ويرجع ظاهرة التفاوت الاقتصادي الاجتماعي بين الجنوب والشمال الى السياسات البريطانية والقوى المهيمنة الشمالية ، أي الى جذورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويتعامل مع حقائق التنوع في الجنوب والشمال بحدودها وحجمها الحقيقي ، بعكس ما نشهده حالياً من مبالغة وتضخيم لحقيقة التنوع وحجمه ومن نظرة تربط ظاهرة التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بهيمنة (الوسط الشمالي والثقافة الشمالية) واسقاط أي امكانية لتعايش المجموعات المختلفة وتفاعلها وتطورها الطوعي في وحدات ثقافية كبيرة في اطار سودان موحد.  وفي نفس الاتجاه يناقش المرحوم عبد الخالق محجوب ، سكرتير الحزب الشيوعي السابق في كتابه (حول البرنامج) مقترحات حول تطور (ثقافات المجموعات / القومية –القبلية غير العربية) خاصة المجموعات الجنوبية (لاحظ تعبير المجموعات القومية – القبلية الذي يجمع بين مرحلتين في تطور المجتمعات) وذلك عن طريق تطوير ثقافاتها ولغاتها والتوسل بها في التعليم والنهضة الثقافية الشاملة باعتبارها جزءاً من مكونات الثقافة السودانية العامة ويربط هذه المقترحات باستفتاء لاعادة تجديد وحدة الجنوب والشمال (هل يعني ذلك تقرير المصير؟) والواقع ان اعلان يونيو 1969م واتفاقية أديس أبابا 1972م يتضمنان ايضاً اعلاناً صريحاً للهوية الاقليمية للجنوب مقابل الهوية العربية الشمالية ، بسبب اختلافاته الثقافية التاريخية.  ويلاحظ هنا عدم اهتمام (حركة تحرير جنوب السودان) وقتها بقضايا اللغة والثقافة المرتبطة بقضية الهوية ولذلك اهملت هذا الجانب في الاتفاقية وفي ممارساتها العملية بعد ذلك رغم ارتفاع صوتها في الدفاع عن خصوصية الجنوب وثقافاته الافريقية في مواجهة نزعات الهيمنة والاستعلاء الكامنة في الثقافة العربية الشمالية . ويبدو ان مفاوضات مشاكوس الجارية الآن لا تركز هي الاخرى على هذه الجوانب . المهم من خلال ذلك يمكن ان يلعب الجنوب ، وأي مجموعة اخرى يفرزها التطور الواقعي، دوره في اعادة النظر في المكونات الاساسية المعتمدة في تحديد الهوية الوطنية وغيرها . ويرتبط ذلك بشرط اساسي يتمثل في توفر الديمقراطية في الدولة والمجتمع واعتبار المواطنة هي اساس الحقوق والواجبات . وضمن هذا الاطار يمكن الوصول الى تسوية وطنية تاريخية تفتح الطريق لبناء سودان ديمقراطي موحد وفاعل في محيطه العربي والافريقي .

الخلاصة

  ناقشت الدراسة تطور مفهوم الوطنية عند الحركة الوطنية في مراحلها الاولى حتى السنوات الاولى للإستقلال ، ودور هذا المفهوم مع ظروف اخرى في وضع العلاقة الشمالية – الجنوبية في مجرى المواجهة والاقتتال لأول مرة في تاريخها . وتطرقت الى تطور هذا المفهوم في الفترة اللاحقة ، في اتجاه مفهوم يعبر عن حقائق الواقع السوداني . وتعرضت الى ان مشكلة الهوية في الوقت الحالي تتمثل في توجهين متطرفين ، متناقضين ومتشابهين في نفس الوقت . الاول يضع الدين في مواجهة الهوية الوطنية ويستند الى الاسلام واللغة العربية ومعاداة كل الثقافات والاديان الاخرى ، ويحاول فرض مفهومه هذا بالقوة والإكراه ، وتمثله الجبهة الاسلامية القومية وحكومة الانقاذ .. والثاني يتركز  وسط الحركة الجنوبية وبعض الدوائر الشمالية . وهو توجه معاكس للتوجه الاول ويضع الانتماء السوداني والافريقي في تناقض موهوم مع الانتماء العربي الاسلامي في الهوية السودانية . وهو ايضاً توجه آحادي يعمل على نفي الهوية العربية الشمالية لمصلحة هوية افريقية مزعومة . وترى الدراسة انه لا سبيل الى مواجهة هذه المشكلة خارج اطار مواجهة الازمة الوطنية الشاملة الجارية في البلاد. وفي مناقشتها لهذين التوجهين توصلت الى مفهوم واقعي موضوعي محدد للهوية الوطنية ، يرتكز الى تكوين قومي مزدوج : هناك هوية عربية اسلامية غالبة في الشمال وهوية اقليمية في الجنوب وتنوع اثني وثقافي في اطار هاتين الهويتين والوطنية السودانية المشتركة . وينطلق هذا المفهوم من واقع تطوره خلال سنوات مابعد الاستقلال ، وترجع جذوره الى فترة السلطنات العربية الاسلامية ، خاصة سلطنة سنار( 1504 – 1821) ، ففي هذه الفترة كان السودان يسير في اتجاه الوحدة والاندماج الوطني لاستكمال كينونته الوطنية بتكوينها المزدوج وتنوعها الثقافي الحالي تقريباً ، أي قبل مجئ الحكم التركي المصري . وذلك يعني ان تكوين السودان بشكله الحديث قد بدأ منذ تلك الفترة. ومع ميلاد الحركة الوطنية الحديثة تطور هذا المفهوم على اساس المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات والمشاركة في تقرير مصير الوطن . وتلازم هذا التطور مع انحسار النظرة التي تربطه بالاسلام واللغة العربية فقط ليستوعب الجنوب وتعقيدات التركيبة السودانية وخصوصية انتمائها ودورها العربي والافريقي . وفي اطار هذا المفهوم الواسع يمكن استيعاب وتنمية ثقافاته وهويته الاقليمية ويمكن ايضاً اخراج الاسلام والعروبة السودانية من مأزقها الراهن النابع عن السياسات الجارية تجاه الحرب الاهلية وقضايا الهوية والوحدة الوطينة . والمدخل الى ذلك يتمثل في التمييز بين الهوية القومية الشمالية من جهة والقوى السياسية والاجتماعية المهيمنة المرتبطة بهذه الهوية من جهة اخرى، ومن ان الاسباب الجوهرية التي ادت الى ادخال البلاد في ازمتها الوطنية الشاملة الراهنة بما في ذلك مفاهيم الاستعلاء الثقافي وممارسة الاستبعاد والتهميش في الحياة الوطنية تتمثل في الطبيعة الفكرية والسياسة لهذه القوى المسيطرة وليس في مفهوم مختل للهوية بشكل محدد .. وامكانية اصلاح الاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،الناتجة من ذلك ليس في نفي الهوية الشمالية او التقليل من شأنها ، وليس في فرض الاخيرة بالقوة والاكراه على المجموعات الاخرى ، بل في توفير الشروط الضرورية لتوسيع المشاركة في الحكم وبناء الدولة الوطنية . والسبيل الى ذلك يتمثل في استعادة الديمقراطية كشرط اساسي والمحافظة على وحدة البلاد وتمكين الجميع من المشاركة في اعادة بناءها على اسس وطيدة .. وهذا لن يتم خارج اطار تسوية وطنية تاريخية ، تشارك فيها كل القوى السياسية و الاجتماعية في الشمال والجنوب على السواء . وفي اطار ذلك يمكن للسودان ان يلعب دوراً اساسياً في محيطه العربي والافريقي ، وفي العلاقات العربية ، الافريقية وفي ضمان امن واستقرار المنطقة وذلك انطلاقاً من ان امنها اما ان يكون عربياً وافريقياً مشتركاً او لا يكون على الاطلاق .

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع :

1-     حوارات الهوية والوحدة الوطنية في السودان – عبدالعزيز حسين الصاوي

2-     أزمة المصير السوداني : مناقشات في التاريخ والسياسة والمجتمع – عبد العزيز حسين الصاوي .

3-     السودان : الدولة المضطربة – بيتر ودوارد ، ترجمة محمد علي جادين .

4-     تقييم التجربة الديمقراطية الثالثة – محمد علي جادين .

5-     ديناميات الهوية – د.فرانسيس دينق ، ترجمة محمد علي جادين .

6-     افارقة من عالمين – د.فرانسيس دينق ، ترجمة محمد على جادين .

7-     صراع الرؤى – د.فرانسيس دينق ، ترجمة عوض حسن .

8-     تاريخ السودان الحديث – د. محمد سعيد القدال .

9-     السودان بين العروبة والافريقية – د.عبدالغفار محمد احمد .

10-   الماركسية وقضايا اللغة في السودان – د. عبدالله علي ابراهيم .

11-   العروبة الافريقية وتحديد الهوية –بروفسور مدثر عبدالرحيم (في كتابات ديناميات الهوية)

12-   حول البرنامج – عبدالخالق محجوب

13-   الحركة النقابية والتطور السياسي في السودان – د. احمد حسن الجاك .