البعــــث

 

Main Page

 

 

البعــــث

 

مجلة داخلية دورية للأعضاء والأنصار فقط

يصدرها حزب البعث العربي الاشتراكي

العدد "3" يو نيو 2001م الخرطوم

 

 

 

 

برنامجنا السياسي

ملاحظات ومراجعات حول

الوثائق الأساسية

 

      1)        1) البرنامج السياسي يمثل أهم أركان العمل الحزبي ومحور نشاطه اليومي وفي المديين المتوسط والبعيد . وأي برنامج يرتبط بتحليل علمي محدد لتطور حركة الواقع الوطني السياسي والاقتصادي والاجتماعي ولارتباطاته الإقليمية العربية والأفريقية في إطار الوضع الدولي السائد والسمات الأساسية للعصر - ونقطة البدء في ذلك بالنسبة لحزبنا - حزب البعث - تتمثل في استيعاب أيديولوجية الثورة العربية والفكر الديمقراطي والاشتراكي عموما وفي استخدام كل ذلك في تحليل حركة هذا الواقع ومتابعة تطوراته بهدف تغييره في اتجاه استكمال أهداف مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي بآفاقها القومية والديمقراطية والاشتراكية (البعث وقضايا النضال الوطني ، ص 35) وبذلك يمثل البرنامج إطارا عاما لمرحلة تاريخية كاملة بأهدافها وقواها السياسية والاجتماعية الأساسية وآفاقها التاريخية المحددة . هذه القضية الهامة ظلت تشكل مركز اهتمام حزبنا ومناضلية منذ بدايات نشؤ التيار القومي الاشتراكي وسط الطلاب في بداية الستينات وحتى ألان وبرز بشكل خاص في التحليلات التي أنجزتها تنظيماته الطلابية الناشئة وقتها في جامعة الخرطوم وجامعة القاهرة فرع الخرطوم في الفترة 62 - 1965 ووثائق المؤتمر الأول لحركة الاشتراكيين العرب 1966 والمؤتمر الثاني في 1968 (أشارت إليها وثيقة البعث وقضايا النضال الوطني في صفحات متفرقة) وعلي أساس هذه التحليلات والوثائق ظل يمارس نشاطه الفكري والسياسي الداخلي والجماهيري طوال تلك الفترة . فشارك بفعالية في مقاومة الديكتاتورية الأولى وفي ثورة أكتوبر 1964 والفترة اللاحقة من خلال نشاطه المستقل وفي العمل المشترك من خلال مؤتمر القوى التقدمية ومؤتمر الدفاع عن الديمقراطية وهيئة الدفاع عن الوطن العربي وغيرها من أشكال النشاط السياسي الجماهيري والمشترك مع القوى الأخرى . وعلي أساسها أيضا كان موقفه من انقلاب 25 مايو 1969 وتطوراته السياسية حتى انقلاب 22 يوليو 1971 بنتائجه وتوجهاته المعروفة . وهذا الاهتمام المبكر بقضايا البرنامج السياسي الوطني وبأهميته وموقعه المركزي في النشاط الحزبي يعكس توجها أصيلا لتفاعل الفكر القومي عموما والفكر البعثي بشكل خاص مع الواقع السوداني من أجل دراسة وتفهم مكوناته وتطوراته الداخلية ومن ثم تحويل الأيديولوجية العربية الثورية الي برنامج عملي يتجه الي القوى الاجتماعية الصاعدة في داخلة ويدفعها لتغييره في اتجاه استكمال مهام مرحله ما بعد الاستقلال السياسي . وبذلك تأخذ الاستراتيجية القومية العامة ، التي تلخصها أهداف وشعارات الوحدة والحرية والاشتراكية ، مضمونها وشكلها المحدد بخصوصية انتماء السودان ودوره العربي والأفريقي ، والمهم أن هذه المحاولات المبكرة تمت إعادة تلخيصها واستكمالها في وثيقة البعث وقضايا النضال الوطني في السودان التي صدرت في 1973 واجازها المؤتمر الحزبي العام في بداية 1975 ، وذلك ، حسب مقدمتها (بهدف تمكين الحزب من امتلاك رؤية علمية وثورية لحركة الواقع الوطني وآفاق تطوره ، ومن ثم امتلاك دليل عمل يربط نشاطات ونضالات الحركة الجماهيرية الديمقراطية المتعددة والمتنوعة بأفقها الاستراتيجي أي بالبرنامج العام ، ويرتفع بها الي مستوى العمل التاريخي) ومن هنا تأخذ هذه الوثيقة أهميتها ومكانتها في تطور نظرتنا وفهمنا للواقع الوطني بعلاقاته وارتباطاته العربية والأفريقية المتشابكة .

*  البعث وقضايا النضال الوطني :

      2)        2) هذه الوثيقة هي أول وثيقة فكرية وسياسية شاملة يصدرها الحزب في تاريخ تطوره ، وتمثل معالجة متطورة لقضايا الواقع الوطني من منظور المنهج القومي (العلمي الجدلي والتاريخي) وهي بذلك تمثل جهدا مقدرا لتحويل الشعارات القومية والأهداف العامة لحركة التحرر القومي العربي الي دليل عمل لفهم الواقع بهدف تغييره في اتجاه الحرية والاشتراكية والوحدة القومية والتضامن الأفريقي . ويعني ذلك عمليا تجسيد الفكر القومي في برنامج عمل وطني محدد قادر علي تلبية احتياجات الواقع السوداني وتمكينه من القيام بدوره العربي والأفريقي . وبذلك اهتمت هذه الوثيقة بتحديد سمات وملامح الواقع الوطني وركزت علي الجوانب الاتية :

      ‌أ.         ‌أ.  تعاملت مع قضية التكوين القومي للشعب السوداني كعملية تاريخية طويلة ومعقدة تمتد الي حقب تاريخية بعيدة . وركزت علي فترة السلطنات العربية الإسلامية (سنار ، كردفان ، دار فور) وفترة الحكم التركي والثورة المهدية ، ثم تابعت تحليلها للحركة الوطنية الحديثة حتى الاستقلال مطلع عام 1956 لتؤكد الطابع المزدوج للهوية الوطنية السودانية ، حيث تسود الثقافة العربية الإسلامية في الشمال والثقافات الأفريقية والمسيحية والديانات التقليدية في الجنوب في (إطار السودان الموحد بارتباطاته العربية والأفريقية المتشابكة) واشارت الي الدور الكبير الذي ظلت تلعبه ظروف الحياة المشتركة والتفاعل السلمي والإيجابي بين المجموعات السكانية المختلفة في تعزيز الوحدة الوطنية وتسريع عملية الاندماج الوطني ، بالإضافة الي دور الدولة المركزية ووحدة السوق الوطني في التاريخ الحديث ومن هنا كانت خصوصية انتماء السودان ودوره في محيطه العربي والأفريقي وأهمية قضية الوحدة الوطنية في فترة ما بعد الاستقلال .

     ‌ب.        ‌ب. هذا التكوين القومي المزدوج دفع الوثيقة لتأكيد (واقع التمايز التاريخي والحضاري بين شمال وجنوب البلاد وحق الجنوب في الحكم الذاتي الإقليمي وتنمية ثقافاته وحمايتها من تيارات التعصب الشوفيني ودفعها للتعايش والتفاعل السلمي والايجابي مع الثقافة العربية الإسلامية الغالبة في الشمال بشكل عام) وفي الوقت نفسه لم تتجاهل حقيقة التنوع الاثني والثقافي داخل الشمال والجنوب ، عندما أكدت علي (المحافظة علي التراث الشعبي وتطويره بشكل عام) .

      ‌ج.        ‌ج. تابعت تطور الحركة الوطنية الحديثة منذ معركة كررى حتى الاستقلال مطلع 1956 ، وذلك (بهدف تحديد خصائصها السياسية والاجتماعية والفكرية وحدود قدراتها في مجرى حركة التطور الوطني والصراع السياسي والاجتماعي الجارى في ارض الواقع) واكدت علي (ضرورة استيعاب كل جوانبها الايجابية بهدف تمكين حزبنا ليصبح بالفعل امتدادا للثورة المهدية وثورة 1924 وحركة الخريجين والحركة الحزبية الحديثة بكل إيجابياتها وليرتبط بجذور الواقع الوطني لفهمه وتغييره في اتجاهه التاريخي) .

      ‌د.         ‌د. حددت ملامح وسمات الواقع الوطني عشية الاستقلال في التخلف والتبعية للسوق الرأسمالية العالمية ودور نمط التنمية الرأسمالي التبعي في تكريس هذا الواقع من خلال ضعف القطاع الحديث وثقل القطاع التقليدي وسيطرة الشركات الأجنبية (البريطانية خاصة) والاعتماد الكبير علي التجارة والقروض الخارجية في ظروف التطور غير المتكافئ بين الدول المتقدمة وبلدان العالم الثالث . واشارت أيضا الي دور كل ذلك في تعميق التفاوت في التطور الاقتصادي الاجتماعي بين الشمال والجنوب بشكل خاص والأقاليم الأخرى بشكل عام مقارنة بوسط البلاد (مثلث الخرطوم /كوستي/سنار) وجاءت سياسات فترة ما بعد الاستقلال لتسير في اتجاه تدعيم هذا الواقع بكل تفاصيله .

               ‌ه.                 ‌ه.  علي ضوء هذا التحليل حددت القوى السياسية والاجتماعية المسيطرة علي هذا الواقع في :

*  الاستعمار العالمي من خلال شركاته وقروضه ووضعية العلاقات غير المتكافئة بين البلدان المتقدمة وبلدان العالم الثالث وارتباط الاقتصاد السوداني بالتجارة الخارجية والتخصص القسري في الإنتاج الزراعي .

*  القوى التقليدية ، القبلية والطائفية ، التي نمت وتطورت في العهد الاستعماري وسيطرت علي مواقع هامة في جهاز الدولة والسوق والنشاط الزراعي .

*  الفئات الرأسمالية التجارية والخدمية المرتبطة بالسوق الرأسمالي العالمي واحتكاراته المسيطرة .

*  الفئات العليا في جهاز الدولة الموروث من الاستعمار البريطاني هذه القوى ظلت تسيطر علي الواقع الوطني من خلال سيطرتها علي السلطة والسوق وتعمل علي تكريسه واستمراره بتركيبه الكولونيالي ونمط تطوره الرأسمالي التبعي المشوه ، بكل إفرازاته في تعميق وضعية التخلف والتبعية وعرقلة عمليات الاندماج الوطني . وفي الجانب الآخر حددت الوثيقة قوى التغيير السياسي والاقتصادي الاجتماعي في القوى المنتجة ، القوى الحديثة ، قوى العمال والمزارعين في المشاريع الحديثة وفئات الطبقة الوسطي والصغيرة المرتبطة بالسوق الوطني ، ممثلة في الحركة الجماهيرية الديمقراطية بنقاباتها وتنظيماتها وأحزابها .

      3)        3) انطلاقا من كل ذلك ، ومن واقع تطورات فترة ما بعد الاستقلال أكدت الوثيقة فشل قوى الحركة الوطنية التقليدية في استكمال تحقيق أهداف مرحلة ما بعد الاستقلال المتمثلة في تدعيم الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي ، التنمية الشاملة والمتوازنة والمستقلة ، تعزيز الوحدة الوطنية ، توطين الديمقراطية والحريات العامة والتكامل السياسي والاقتصادي مع محيطنا العربي والأفريقي . وذلك بحكم تداخلها وارتباطاتها بالقوى الاجتماعية المسيطرة علي الواقع وقصورها الفكري والسياسي . وتكشفت هذه الحقيقة في صراعاتها حول السلطة بعد إعلان الاستقلال وصراعها مع الحركة الجماهيرية الديمقراطية في نفس الوقت حتى اضطرت لتسليم السلطة للعسكريين في نوفمبر 1958 .. وجاءت ثورة أكتوبر 1964 وانتكاستها لتؤكد إصرار هذه القوى علي المحافظة علي التركيب السياسي والاجتماعي السائد . وانقلاب 25 مايو 1969 كان هو الآخر تعييرا عن هذا الإصرار بطريقة أخرى . ومن خلال ذلك تحددت المحاور الأساسية لبرنامج مرحلة ما بعد الاستقلال في المحاور الاتية :

      ‌أ.         ‌أ.  في المجال السياسي : إشاعة الديمقراطية والحريات العامة ، بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية (دستور ديمقراطي ، استقلال السلطات ، حرية الأحزاب والصحافة الخ ..) ، حكم محلي لا مركزي واسع ، توحيد قوى الشعب ، بناء جبهة وطنية ديمقراطية وتقدمية واسعة وتأمين مصالح الطبقة الوسطي والصغيرة .

     ‌ب.        ‌ب. إصلاح جهاز الدولة : تطهيره من العناصر الرجعية والبيروقراطية ، تدعيمه بالعناصر الديمقراطية ، ربطه بالإنتاج واعتبار الكفاءة والأمانة هي الأساس في مختلف الأجهزة الدولة ، وذلك بهدف خلق جهاز دولة عصري وكفوء وقادر علي العمل والإنتاج . ويضاف الي ذلك الاهتمام بالتدريب ، تنشيط دور منظمات العاملين في الإدارة والإنتاج ، استقلال القضاء ومؤسسات التعليم العالي ، بناء جيش وطني مرتبط بأهداف الشعب الخ ..

      ‌ج.        ‌ج. قضية الجنوب : الاعتراف بواقع التمايز التاريخي والثقافي والحضاري بين الشمال والجنوب ومنح الجنوب حكما ذاتيا إقليميا في إطار السودان الموحد ، وضع خطة اقتصادية اجتماعية لتطويره واستغلال إمكانياته ، توثيق العلاقات مع دول الجوار الأفريقي وحركة التحرر الوطني الأفريقي والمساهمة في بناء حركة ديمقراطية واشتراكية في الجنوب متفاعلة مع الحركة الوطنية والديمقراطية في الشمال .

      ‌د.         ‌د. المجال الاقتصادي : اعتماد التخطيط الاقتصادي كأساس للتنمية ، بناء اقتصاد وطني متنوع ومتكامل ، اعتبار القطاع العام هو الأساس في التجارة الخارجية والمصارف والصناعات الأساسية والمشاريع الزراعية الكبيرة الخ .. تحديد دور القطاع الخاص والتعاوني والمشترك في هذا الإطار ، انتهاج سياسة اقتصادية تستهدف تحريك الموارد وتعبئة الفائض الاقتصادي للتنمية ، وضع المصالح الوطنية أساسا للتعامل مع البلدان الأخرى ، التوجه للتكامل الاقتصادي مع البلدان العربية الأخرى لخلق تكتل إقليمي متكامل وقادر علي تحقيق نهضة المنطقة .

      ‌ه.         ‌ه. الإصلاح الزراعي في القطاع الزراعي الحديث والقطاع التقليدي علي السواء : المحافظة علي المشاريع الحكومية ، إدخال القطاع العام والتعاوني في قطاع الزراعة الآلية ، المحافظة علي الملكية العامة للأرض ، تكثيف وتنويع المحاصيل وتولي الدولة عمليات تسويقها ، مشاركة تنظيمات المزارعين في الإدارة الخ .. وفي القطاع التقليدي ركز البرنامج علي ربطه بالقطاع الحديث بالاستثمارات المباشرة وخاصة في الأقاليم الأكثر تخلفا ، مواجهة مشكلات المياه والمراعي لخلق استقرار في مناطق الرعي ، الاهتمام بالزراعة المستقرة والصناعات التقليدية وتصفية الإدارة الأهلية الخ ..

      ‌و.                ‌و.  الصناعة : تطوير صناعات القطاع العام ، خلق صناعات مرتبطة بإمكانيات واحتياجات البلاد وتكامل قطاعات الاقتصاد الوطني الخ ..

      ‌ز.        ‌ز. التعليم والثقافة والخدمات : خلق نظام تعليمي مرتبط باحتياجات التطور الوطني وبالثقافة الوطنية وروح العصر ، شروط خدمة المعلمين ، إلزامية التعليم الابتدائي والثانوي ، خلق ثقافة وطنية مرتبطة بمنجزات العلم الحديث ومعادية للقهر والاستعلاء القومي وقادرة علي استيعاب التمايز التاريخي بين الشمال والجنوب وارتباطات البلاد العربية والأفريقية ، تمكين الجنوب من تنمية ثقافاته ولغاته ، تحرير المرأة ، المحافظة علي التراث الشعبي ، محو الأمية ، تطوير وتوسيع الخدمات الطبية ، وخلق شبكة مواصلات واسعة وقوية تربط أجزاء القطر مع بعضها ومع دول الجوار العربي والأفريقي الخ ..

      ‌ح.        ‌ح. السياسة العربية : تنمية الوعي القومي ، العمل المشترك مع التنظيمات العربية ، دعم حركة التحرر القومي العربية ، المقاومة الفلسطينية ، والوحدة العربية علي أساس الديمقراطية والتكامل الاقتصادي والثقافي والسياسي .

      ‌ط.        ‌ط. السياسة الأفريقية : دعم حركة التحرر الأفريقي ، تدعيم اتجاهات الوحدة والتضامن الأفريقي ، توثيق التحالف بين حركة التحرر القومي العربية وحركة التحرر الأفريقية .

      ‌ي.       ‌ي. السياسة العالمية : مقاومة الاستعمار ، إسرائيل والحركة الصهيونية ، حركة بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية المعسكر الاشتراكي ، الاستقلالية .

*  ملاحظات حول بعض القضايا :

      4)        4) في وصفها لطبيعة هذا البرنامج والمرحلة التاريخية التي يتناولها ، أشارت الوثيقة الي أوصاف متعددة . فقد عنونت البرنامج (برنامج الثورة الوطنية التقدمية) وفي عنوان آخر وصفته (برنامج الثورة الديمقراطية : أهدافها وآفاقها وأداة إنجازها) وفي صلب التحليل ظلت تشير الي (مهام مرحلة ما بعد الاستقلال) وكذلك (المهام الديمقراطية السياسية والاقتصادية الاجتماعية التي طرحتها فترة ما بعد الاستقلال) وهذا يشير بالتأكيد الي ارتباك فكرى وسياسي في المنهج والنظرة وهذا الارتباك يعكس نفسه أيضا في اسلوبها التقريري واحكامها المتسرعة في كثير من الأحيان ويبدو أن الوثيقة كانت أسيرة الظروف التي كتبت فيها ، والتي تميزت بسيادة الفكر اليسارى في معظم اطراف حركة التحرر القومي العربية بشكل عام ووسط حزب البعث العربي الاشتراكي بشكل خاص . ففي عام 1963 صدرت المنطلقات النظرية بتوجهاتها اليسارية والاشتراكية المعروفة وشهدت الفترة نفسها صراعات متنوعة داخل حزب البعث ، خاصة في سوريا والعراق وبقية بلدان المشرق . وهناك أيضا توجه عبدالناصر والتجربة المصرية بعد انفصال 1961 وظهور الأنظمة الوطنية التقدمية في المنطقة (مصر ، سوريا ، العراق ، الجزائر الخ ..) وفي عدد من بلدان القارة الأفريقية (غانا ، غينيا ، تنزانيا الخ ..) وفي المستوى الدولي كانت تسيطر ظروف الحرب الباردة والصراع الدائر بين المعسكر الراسمالي الغربي والمعسكر الاشتراكي الشرقي . ولذلك لم تخرج الوثيقة في توجهها العام عن الإطار الفكري والسياسي الذي فرضته هذه الظروف ، ولكنها في الوقت نفسه تميزت بالهدوء والرصانة والعمق في تحليلها العام للتكوين القومي وتطور الحركة الوطنية الحديثة والسمات والملامح العامة للواقع السوداني . وفي البرنامج الذي طرحته ركزت علي القضايا الاساسية في مرحلة ما بعد الاستقلال : قضايا صيانة الاستقلال الوطني وتدعيمه ، الديمقراطية والحريات العامة ، اصلاح جهاز الدولة ، قضية الجنوب والحرب الأهلية الجارية هناك ، قضايا التنمية الاقتصادية والاستقلال الاقتصادي ، الاصلاح الزراعي ، مشاكل التعليم والثقافة والخدمات ودور السودان في محيطه العربي والأفريقي والدولي ، وهذا يشير الي انشدادها بشكل عام لضغوط الواقع الوطني العملية والي خبرات العمل السياسي في الفترات السابقة ، ومن هنا يمكن القول بسلامة توجهها العام وترددها وتأرجحها في الموقف من بعض القضايا ، خاصة قضايا الديمقراطية والحريات العامة . فهي تكثر من الإشارة اليها في تعبيرات واضحة ومحددة في فقرات عديدة ، حيث نشير مثلا الي (اشاعة الديمقراطية وكافة الحريات العامة ، بما في ذلك حرية الأحزاب ..) وفي فقرات أخرى تجنح باتجاه مفاهيم (الديمقراطية الشعبية) السائدة وقتها في الأنظمة الوطنية التقدمية العربية وبلدان اوربا الشرقية ، حيث تشير الي (إقامة نظام وطني أساسه الديمقراطية الشعبية..) وهذا التناقض يعكس ارتباكا واضحا . ولكنها مع ذلك ظلت تتمسك في منهجها وتحليلها باهمية الديمقراطية والحريات العامة في مجرى حركة التطور الوطني في فترة الحكم البريطاني والحكم المدني والعسكرى علي السواء ، وظلت أيضا تتمسك بضرورات التحالف السياسي الواسع في شكل جبهة وطنية ديمقراطية وتقدمية واسعة . وهذا يعكس ليس فقط ارتباك الوثيقة ، بل يعكس أيضا اشكالية الديمقراطية في واقع متخلف ومعقد مثل الواقع السوداني كما اشارت الوثيقة مرات عديدة . فانقلاب نوفمبر 1958 كان مؤامرة لقطع الطريق أمام صعود القوى الوطنية الديمقراطية وقتذاك ، لكنه في الوقت نفسه كشف (ضعف الأساس الاقتصادي والاجتماعي للنظام الديمقراطي في بلادنا .) وذلك لعدم قدرة قوى التخلف المسيطرة (علي المحافظة عليه عندما تتهدد مصالحها بفعل ضغط ونضال قوى الديمقراطية والتقدم . وكشف أيضا الارتباط الحميم بين البيروقراطية العسكرية العليا وقوى التخلف والرجعية ، ودور هذه البيروقراطية في تخريب وعرقلة حركة التطور الوطني .) ومن هنا أدى الانقلاب العسكري الي صعود (قضية الديمقراطية الي مقدمة قضايا النضال الوطني) في تلك الفترة . وجاءت ثورة أكتوبر 1964 لتكشف (اهمية الديمقراطية بابعادها السياسية والاقتصادية الاجتماعية وارتباطها بقضايا التغيير ..) وكل ذلك يؤكد عمق التوجه الديمقراطي في منهج ونظرة الوثيقة للواقع الوطني . بجانب ذلك كانت هناك سيادة مقولات فترة الستينات والسبعينات حول الديمقراطية الشعبية ونظرتها السلبية للحريات وحقوق الإنسان . ولذلك تأثرت معالجاتها لهذه القضية بالمناخ العام الذي افرزته تلك المقولات وفي هذا الاتجاه ساعدت أيضا ظروف صراعات ما بعد أكتوبر 1964 والتعقيدات المصاحبة لانقلاب 25 مايو 1969 في تكريس هذا التوجه . فقد شهدت تلك الفترة انقساما حادا في حركة المعارضة السياسية بين الجبهة الوطنية (الاتحادى والامة اوالاخوان) من جهة والقوى التقدمية من جهة أخرى ، نتيجة للتعقيدات التي فرضتها ظروف ما بعد 1969م . ورغم كل ظلت شعارات الديمقراطية والحريات العامة تحتل مكانا عاليا في الممارسة العملية وفي البيانات السياسية وجريدة الهدف وفي التحالفات السياسية اليومية وسط حركة الطلاب والنقابات . ومع دخول النظام المايوي في ازمته السياسية والاقتصادية في النصف الثاني للسبعينات ، وانفراط الجبهة الوطنية بعد مصالحة 1977 ، مع كل ذلك شهد الواقع السياسي متغيرات اساسية كان لها دورها في تطوير الوثيقة من خلال البيانات التي صدرت حول المصالحة ووثيقة (نحو مخرج ديمقراطي لازمة التطور الوطني) الصادرة في 1978 . وشمل هذا التطور الموقف من قضايا الديمقراطية والتحالفات السياسية بشكل خاص . وهذا نناقشه في حلقة أخرى 

 

 

البعــــث

 

Main Page